«الشرق الأوسط الأخضر»… استثمار في الطبيعة لا مجرد حملة ضخمة لزراعة الأشجار



في نهاية شهر مارس (آذار) الماضي، أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن مبادرة «الشرق الأوسط الأخضر»، التي تهدف إلى مواجهة التحديات البيئية وتحسين جودة الحياة والصحة في المنطقة والعالم. صفة «الأخضر» دفعت البعض إلى الاعتقاد أن المبادرة مجرد حملة تشجير ضخمة على المستويين المحلي والإقليمي. صحيح أن التشجير عنصر أساسي في المبادرة، لكنه جزء واحد فقط منها. فصفة «أخضر» هنا تشير إلى مفهوم واسع للتنمية المستدامة، يقوم على استثمار متوازن للموارد الطبيعية، يلبي حاجات الأجيال الحاضرة ويحافظ في الوقت عينه على حق الأجيال المقبلة في حياة كريمة، بالحد من الانبعاثات الكربونية والتلوث، وتأمين توافر الموارد وتجددها.

وتشمل هذه المبادرة في قسمها المحلي الذي يحمل عنوان «السعودية الخضراء» عدداً من المشاريع الطموحة، أبرزها زراعة 10 مليارات شجرة داخل المملكة لتأهيل 40 مليون هكتار من الأراضي المتدهورة، ورفع نسبة المناطق المحمية إلى أكثر من 30 في المائة، ومجموعة من المشاريع لحماية البيئة البحرية والساحلية.

كما تعمل مبادرة «السعودية الخضراء» على تقليل الانبعاثات الكربونية، من خلال مشاريع الطاقة المتجددة التي ستوفر نصف إنتاج الكهرباء داخل البلاد بحلول 2030، وتخفيض الانبعاثات الكربونية بمقدار 130 مليون طن سنوياً عبر مشاريع التقنيات الهيدروكربونية النظيفة للحد من انبعاثات الوقود الأحفوري المحلية التي تبلغ حالياً نحو 600 مليون طن سنوياً، وكذلك استرجاع المواد والطاقة من النفايات بنسبة طموحة تصل إلى 94 في المائة، فلا يذهب إلى المطامر أكثر من 6 في المائة منها.

أما إقليمياً، فتسعى مبادرة «الشرق الأوسط الأخضر» إلى زراعة 40 مليار شجرة إضافية بهدف استصلاح نحو 200 مليون هكتار من الأراضي المتدهورة، وخفض انبعاثات الكربون العالمية. كما ستتضمن المبادرة نقل المعرفة وتبادل الخبرات للمساهمة في خفض انبعاثات الكربون من قطاع النفط في المنطقة بأكثر من 60 في المائة.

الأشجار الملائمة في الأماكن المناسبة

وفيما اهتمت مجمل التغطية الإعلامية العالمية لهذه المبادرة برقم الخمسين مليار شجرة التي تعتزم المبادرة زرعها، كان من الواضح أن صناع القرار في السعودية يقدمون حلاً بيئياً واسع الطيف وأعمق بكثير من مجرد حملة ضخمة أخرى لزراعة الأشجار. لكن تبقى للتشجير أهمية بيئية تتعدى جمال المنظر، لقدرة الغابات على امتصاص كميات كبيرة من ثاني أوكسيد الكربون وتنقية الهواء.

خلال السنوات القليلة الماضية، أعلنت الكثير من البلدان عن مشاريع كبرى لزراعة الأشجار. ففي عام 2019، زعمت إثيوبيا أنها زرعت 350 مليون غرسة في أقل من 12 ساعة. وعام 2014 أطلقت إحدى مقاطعات باكستان مشروع «تسونامي المليار شجرة»، وتوسع هذا المشروع في 2018 على المستوى الوطني. وتسير الصين على الطريق الصحيح لزراعة 35 مليون هكتار بالأشجار في مناطقها الشمالية القاحلة لإنشاء ما تصفه بالسور الأخضر العظيم.

ما لم تقم على خطة متكاملة ومنظمة جيداً، يمكن لحملات زراعة الأشجار أن تدمر النظم البيئية الطبيعية، وتجفف إمدادات المياه، وتضر بالزراعة، وتدفع بالناس بعيداً عن أراضيهم، بل إنها تجعل الاحترار العالمي أسوأ. لكن في المقابل، فإن زراعة الأشجار المناسبة في الأماكن المناسبة تساهم في عزل الكربون، وتعيد بناء الغابات، وتعزز الإنتاجية الزراعية. وفي الواقع، فإن الزراعة الرشيدة للأشجار هي واحدة من أفضل الحلول القائمة على الطبيعة لمواجهة تغير المناخ وتحسين الصحة العامة وخلق فرص عمل مستدامة.

لعقود مضت، تضمنت حملات التشجير في الكثير من الدول العربية القليلة المياه زراعة أشجار الصنوبر والأكاسيا والأوكاليبتوس، وتعرف الأخيرة محلياً باسم الكينا في سورية ولبنان، والكافور في مصر، وقلم طوز في العراق. وتظهر الأبحاث أن هذه الأشجار تستهلك مياهاً أكثر بكثير من النباتات المحلية، حيث تجفف الأنهار والأراضي الرطبة، وتلحق ضرراً بشبكات الصرف الصحي، وتزاحم الأنواع المحلية، كما تزيد من الوقود المتاح لحرائق الغابات مما يجعلها أكثر خطورة.

خيارات خاطئة كهذه دفعت حكومة جنوب أفريقيا، التي تواجه نقصاً حاداً في المياه تفاقم بفعل الأشجار الغازية، كالأكاسيا والأوكاليبتوس والصنوبر، إلى إنفاق ملايين الدولارات سنوياً لإزالتها من مستجمعات المياه والمناطق المحمية الرئيسية. واللافت أن مشاريع غرس الأشجار في جميع أنحاء العالم لا تزال تتبنى حتى الآن زراعة الأوكاليبتوس والصنوبر في غير مواطنها، لأنها تنمو سريعاً في معظم المناخات.

في بعض البلدان، يوجد صراع قديم بين استخدام الأراضي لزراعة الأشجار واستخدامها لزراعة المحاصيل والخضار من أجل إطعام الأعداد المتزايدة من السكان. ففي باكستان، كانت الأراضي تؤجر لرعاة الماعز منذ قرون عدة، ولكن «تسونامي المليار شجرة» الذي بدأ في 2014 غير هذه الممارسة، إذ قدمت الحكومة غراساً مجانيةً لأصحاب الأراضي ودفعت لهم سنوياً مقابل كل شجرة استمرت في النمو. ولأن عائد الأشجار كان أكبر من عائد الإيجارات، فقد الرعاة إمكانية الوصول إلى مناطق الرعي الكبيرة، واضطروا إلى بيع حيواناتهم، والتخلي عن أسلوب حياتهم التقليدي، والبحث عن وظائف منخفضة الأجر في المدن البعيدة. ويجري البحث الآن في بدائل تحفظ التوازن بين التشجير والنشاطات الريفية الأخرى.

وفي المكسيك، تقدم الحكومة مدفوعات مباشرة لمالكي الأراضي من أجل زراعة الأشجار في إطار برنامج وطني للتشجير تحت اسم «بذرة الحياة». وكانت النتيجة قيام العديد من ملاك الأراضي بقطع الغابات القديمة لزراعة الغراس الصغيرة. ورغم أن هذه الممارسة قد تكون مقبولة من الناحية الاقتصادية إلا أنها تسببت في فقدان عشرات آلاف الهكتارات من الغابات الناضجة. وبسبب تغير المناخ، أصبحت الغابات معرضة على نحو متزايد للتدمير بسبب الجفاف والحرائق والحشرات والأمراض والعواصف، التي تطلق الكربون مرةً أخرى في الغلاف الجوي. واعتماداً على أنواع التربة والمناخ، غالباً ما تستخدم الأعشاب كمية أقل من المياه لعزل الكربون في التربة مقارنةً بالأشجار، لا سيما في درجات الحرارة المرتفعة. كما أن الحشائش أقل عرضة للتلف بسبب الحرائق والجفاف والأمراض.

في إسكتلندا توجد مساحات شاسعة من الأراضي الرطبة تنمو فيها النباتات المنخفضة التي تشكل الطحالب والأعشاب معظمها. ونظراً لأن التحلل بطيء جداً في الأراضي الحمضية المغمورة بالمياه، تتراكم النباتات الميتة على فترات طويلة جداً مما يؤدي إلى تكوين الخث أو «البيتموس». ولكن في أواخر القرن العشرين، جرى تجفيف بعض المستنقعات الإسكتلندية لزراعة الأشجار، مما تسبب في تسريع تآكل الخث وإطلاق الكربون الذي يختزنه، مما استوجب إدخال تعديلات على الخطة.

– الشجرة رمز لاستعادة النظام البيئي

يقدر العلماء أن النظم البيئية على اليابسة تستطيع استيعاب نباتات إضافية تكفي لامتصاص ما بين 40 و100 مليار طن كربون من الغلاف الجوي. وفي المقابل، تطلق البشرية إلى الغلاف الجوي 10 مليارات طن من الكربون سنوياً، أي أن الحلول القائمة على زراعة النباتات تستطيع إزاحة العبء المناخي الناتج عن عشر سنوات من النشاط البشري، مما يستوجب تحديد الأشجار وفق قدرتها الاستيعابية على امتصاص الكربون.

في مبادرة «الشرق الأوسط الأخضر»، تأتي زراعة الأشجار كجزء من الحل لمواجهة التغير المناخي، وهي تخطو خطوة متقدمة في معالجة أساس المشكلة عبر تقليل الانبعاثات الكربونية من خلال مشاريع الطاقة المتجددة، ومشاريع التقنيات الهيدروكربونية النظيفة، واسترجاع المواد والطاقة من النفايات، ونقل المعرفة وتبادل الخبرات.

وتتجاوز المبادرة مسألة التعامل مع الأشجار على أنها مجرد مخازن للكربون، إلى اعتبارها مدخلاً لاستعادة النظم الطبيعية المتدهورة في مساحة تمتد على 200 مليون هكتار. وهذه تبلغ ضعف المساحة المستهدفة في مبادرة «السور الأخضر العظيم» الصينية. وهي تقدم الدعم للمجتمعات المحلية في منطقة الساحل والصحراء لإدارة واستخدام الغابات والمراعي والموارد الطبيعية الأخرى بصورة مستدامة، إلى جانب المساهمة في التخفيف من آثار تغير المناخ والتكيف معها، وتحسين الأمن الغذائي وسبل المعيشة للسكان.

وفيما تلحظ المبادرة الأفريقية استعادة الأراضي العشبية والسافانا، وتعمل المملكة المتحدة على إنقاذ الأراضي الخثية، فإن مبادرة «الشرق الأوسط الأخضر» تملك عدداً أكبر من الخيارات المؤثرة نتيجة تنوع المشاكل البيئية في المنطقة. ففي مجال استعادة النظم الطبيعية، تستطيع المبادرة دعم إنقاذ غابات القرم (الشورى أو المانغروف) التي تنتشر على سواحل البحر الأحمر والخليج العربي وخليج العقبة.

وتتحمل أشجار المانغروف الملوحة، وتتكيف مع الحياة في الظروف الساحلية القاسية، وتساعد في عزل الكربون بكثافة أكبر بكثير من أنواع الأشجار الأخرى، كما تمثل حاجزاً بين الأرض والبحر يحمي الناس من الفيضانات الساحلية المدمرة، وهي فوق كل ذلك موئل للأنواع الحية كالأسماك ذات الريعية الاقتصادية.

كما يمكن لمبادرة «الشرق الأوسط الأخضر» أن تلحظ حماية المناطق الجافة وشبه الجافة من انتشار الكثبان الرملية عبر الزراعة المستدامة للأنواع النباتية المحلية التي تعد مصداً طبيعياً للرمال كأشجار الأثل، وكذلك عبر إيجاد بدائل لتخفيف الضغوط عن المراعي الطبيعية. وفي هذه الحالة أيضاً، تشكل المبادرة فرصةً لاستعادة التنوع البيولوجي وزيادة المناطق المحمية وتوفير فرص عمل إضافية للسكان المحليين.

أما أبرز ما يمكن أن تقدمه المبادرة فهو حماية الغابات القليلة المتبقية في المنطقة. ففي كل سنة تتعرض الغابات الساحلية في شرق المتوسط وشمال أفريقيا لحرائق الغابات التي تقضي على آلاف الهكتارات، كما يطال التحطيب العشوائي الأشجار المعمرة في الأودية والبوادي في شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام ومناطق أخرى. ويمكن للمبادرة أن تقدم الخبرات في مجال الإدارة المستدامة للموارد الطبيعة، وتدعم نظم المراقبة والإنذار والاستجابة السريعة للحرائق.

زراعة 50 مليار شجرة عبر مبادرة «الشرق الأوسط الأخضر» تمثل أكبر مساهمة عالمية حتى الآن في مشروع «الحفاظ على تريليون شجرة أو ترميمها أو زراعتها» بحلول 2030 الذي أطلقه المنتدى الاقتصادي العالمي العام الماضي. وبغض النظر عن الأرقام، تبقى الأشجار رمزاً لاستعادة النظم البيئية باعتبارها شبكات خضراء معقدة يتعين علينا احترامها ومعرفة موقعنا فيها، لأن مصير ملايين الأنواع الحية يرتبط بها.